ورقة موقف  ” في خضم أزمة كورونا: ما هو الاقتصاد الفلسطيني المطلوب؟”

 

  

  

ورقة موقف: ” في خضم أزمة كورونا : ما هو الاقتصاد الفلسطيني المطلوب؟ – إصدار مرصد السياسات الاجتماعية الاقصتادية (مرصد)

 

نيسان 2020  

أظهر انتشار فيروس كوفيد– 19 المستجد هشاشة أنظمة الرعاية الاجتماعية والصحية في الكثير من الدول المتقدّمة، كما أظهر خطورة استمرار نهج الاقتصاد العالمي بشكله الحالي، حيث تلقّى هذا النهج سيلًا نقديًا عارمًا من قِبلِ المؤسسات الفكرية والبحثية، والحركات الاجتماعية، ومن قِبلِ منظمات الأمم المتحدة.

يرتكز هذا الاقتصاد على تحقيق الربح، وضمان حريّة حركة الأموال والاستثمارات والسلع، دون وجود أي التزامات اقتصادية وضريبية واجتماعية تجاه الدول التي يتم تحقيق الربح فيها. الاقتصاد الذي فشل في معالجة الأزمة المرافقة للوباء. كما تبيّن أن أولويات الإنفاق العمومي لدى غالبية الدول الرأسمالية بحاجة لمراجعة وإعادة توجيه؛ فمن الإنفاق على العسكرة والتسلّح، والإدارة العامة المتضخمة، إلى الإنفاق على البحث والتطوير المرتبطين بأولويات المجتمع، وكذلك الصحة، والتعليم، وقطاع الحماية الاجتماعية. وعلى الرغم من التفاؤل الكبير الذي يبديه البعض تجاه نشوء مسار اقتصادي واجتماعي بديل ما بعد الأزمة، إلا أن هذا نشوئه ليس حتميًا وبحاجة للكثير من العمل والنضال.

تواجه فلسطين جائحة فيروس كورونا بصعوبة شديدة، وهي ما زالت تحت استعمار كولونيالي، رغم كافة الاجراءات التي اتخذتها الرئاسة والحكومة بما فيها إعلان حالة الطوارئ، والتزام العزل المنزلي الإجباري، إلّا أن الاحتلال بقي المصدر الأساسي لتهديد صحة الفلسطينيين/ات، وفي التحكّم بدخول العمّال الفلسطينيين للعمل داخل الخط الأخضر رغم كافة المحاولات لضبط الأمر، مما يؤكّد على مسألة إلحاق الاقتصاد الفلسطيني باقتصاد الاحتلال، ويؤكّد أيضًا ضرورة التحرر من قيوده والتبعية له إذا ما أردنا أن نتحرر وطنيًا. ورغم إطلاق الحكومة الفلسطينية الأخيرة لخطة اقتصادية قصيرة المدى سميت ب “العناقيد الاقتصادية”[1]، في محاولة للانفكاك الاقتصادي عن الاحتلال، والتي قوبلت الخطة بترحيب حذر من بعض القطاعات الاقتصادية، والمؤسسات، ولكنها واجهت ردود فعل من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وأبرزت وجود معارضة قوية من قبل مجموعات ضغط اقتصادية داخلية قد تتضرر مصالحها نتيجة الانفكاك.

ورغم أنه من المبكر تحديد وتأطير كافة الدروس والعبر المستفادة من أزمة الطوارئ وتعامل الحكومة الفلسطينية معها، إلّا أنّه يمكن القول أن الاقتصاد الفلسطيني وفق أولوياته الحالية بحاجة ماسّة لإعادة هيكلة جديّة، تضمن عدم إحداث انهيارات اجتماعية واقتصادية كبرى داخل المجتمع الفلسطيني نتيجة وطأة الأحداث والأزمات المتلاحقة، ويمكن رسم بعض الخطوط العامة لهذه الهيكلة على النحو التالي:

أولًا: ضرورة تنمية القطاعات الإنتاجية القادرة على الصمود، التشغيل، وتحقيق هامش ربح، والقادرة على استيعاب أيادي عاملة بشكل كبير، مع ضرورة تحقيق التنمية بشكل موجّه، أي التخطيط المركزي لهذه العملية التنموية.

ثانيًا: وجوب صبّ التركيز على المنشآت الاقتصادية متناهية الصغر، والصغيرة، والمتوسطة، وهي الفئة الأوسع والأكثر انتشارًا، وتشغيلًا،[2] وذلك بتقديم الإعانات المالية، والمنح، وأي مساعدات لمنعها من الإغلاق الناتج عن تراكم الخسارة المرافقة لحالة الطوارئ، ومن ثم يصار إلى تطوير سياسة تنموية موجّهة نحو هذه المنشآت على خلاف ما هو قائم حاليًا.

ثالثًا: تنمية الزراعة والثروة الحيوانية بما يحقق مزيدًا من السيادة على الغذاء وتنويع المحاصيل، وذلك عبر توجيه الإنفاق الحكومي، والخروج من دور “المنظّم” إلى دور فعّال يهدف للوصول إلى تخطيط الدورة الزراعية، ويركّز جهده على فلاحة واستصلاح الأراضي الزراعية المهملة، وتطوير التقنيات الزراعية المستخدمة.

رابعًا: إعادة توجيه الإنفاق الحكومي، والذي يعتبر الثاني من حيث الحجم بعد الإنفاق الأسري، ولكنّه الأول من حيث التركيز. من خلال التخفيف من الإنفاق على قطاع الأمن، من نثريات وإيجارات، ومحاربة الفساد لما يسبّبه من خسارات مالية محقّقة، وتعزيز الإنفاق في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية الأكثر أولوية وأهميّة كقطاع الصحة، والتعليم، والحماية الاجتماعية والتي أثبتت عدم نجاعتها خلال الأزمة، وقصور شمولها لكافة أفراد المجتمع.

خامسًا: مواجهة صوابية النقد لغياب عدالة النظام الضريبي الفلسطيني،[3] وحجم التشوهات الذي يعاني منها. حيث أنّه المصدر الأول لإيرادات الحكومة الفلسطينية، وبالرغم من ارتباطه الوثيق باتفاقية باريس الاقتصادية وفاتورة المقاصّة، إلا أنّه صار لزامًا هيكلة النظام الضريبي ليصبح أكثر عدالة والتخلّص من هذه الاتفاقية سيئة الصيت والسمعة. الأمر الذي يعني تحقيق إيرادات ضريبية أعلى من الأفراد الأكثر دخلًا وربحًا، وتخفيف العبء الضريبي على المواطن/ة العادي، الذي/التي يتحمّل/ تتحمّل الآن فاتورة تمويل الحكومة ونفقاتها.

سادسًا: أظهرت الأزمة الناتجة عن حالة الطوارئ أنّ الدعوات الحكومية الموجّهة لكبرى شركات القطاع الخاص الفلسطيني، وإنشاء صندوق “وقفة عز” لمواجهتها، لم تلقَ التفاعل والدعم المتوقّع من حيث حجم التبرعات والمساهمات في الصندوق، كما أنّ بعض هذه التبرعات جاءت على شكل مواد عينية، والتي يُمكن ألا تنسجم مع احتياجات الأزمة والتي من أجلها أنشأ الصندوق. خلاصة القول إن سياسة محاباة القطاع الخاص؛ بمنحهم الاحتكارات والامتيازات، وصناعة قانون تشجيع الاستثمار وفق مقاسهم ورغباتهم، وتخليصهم من الأعباء الضريبية، يجب أن تتوقّف حفاظًا على السلم الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع الفلسطيني، الذي لم يعد في وسعه تسديد مزيد الأثمان لصالح نخبة صغيرة تتحكم بمعظم مفاصل الاقتصاد الفلسطيني، غير المنتِج، والموجّه لتحقيق أعلى الأرباح ولو على حساب سبل معيشة المواطنين/ات.

سابعًا: يجب إعادة التعليم إلى محور اهتمام المجتمع، كما كان في السابق، من خلال تطويره وتثويره، وتخصيص ميزانيات كافية لدعم العملية التعليمية والمؤسسات التعليمية، وتطوير ميزانيات كافية للبحث والتطوير في مجال العلوم الطبيعية والاجتماعية، لتأثيره الإيجابي في تطوير كافة مناحي حياة المجتمع الفلسطيني.

ثامنًا: إعادة هيكلة الصندوق القومي، وصندوق الاستثمار الفلسطيني في إطار بنية تخضع للمحاسبة والمساءلة العامة، وتضمن أن استثمارات وموارد هذه الصناديق توجّه لخدمة الأولويات والمجالات المذكور أعلاه، وبشكل يضمن تحديد العلاقات ما بين هذه الصناديق وكبرى الشركات المستفيدة من العلاقات معها.

تاسعًا: وجوب استجابة الدعم والتمويل الدولي والعربي لأولويات التحرر الوطني الفلسطيني المستندة إلى خطة تنمية تحرريّة بأولويات واضحة وموجّهة، ومتفق عليها من كافة الفاعلين في المجتمع الفلسطيني، ودون وجود أي إملاءات أو شروط سياسية، أو قيود على استخدامات التمويل في سبيل تحقيق تنمية القطاعات الاقتصادية والاجتماعية ذوات الأولوية. تجدر الإشارة هنا إلى انقطاع التمويل الأمريكي عقِب قرار الإدارة الأمريكية لم نرَ أثارًا سلبية كبيرة على المجتمع الفلسطيني نتيجة انعزاله، رغم سعيه في إطار أيدولوجية لتحقيق “السلام الاقتصادي” على حساب الحقوق الوطنية للفلسطينيين/ات، وعلى حساب أولوياتهم التنموية. كما أنّه من المهم زيادة أواصر التعاون في مجالات التبادل، والتعاون المعرفي والتكنولوجي في المجالات العلمية والاجتماعية على أسس نقل المعرفة وتوظيفها فلسطينيًا.

عاشرًا: بناء وتطوير منظومة للحماية الاجتماعية تبدأ بإقرار نظام ضمان اجتماعي، شامل، وعادل، بحيث يدار بشفافية ونزاهة عالية، ويكون ملجأ في حالات الطوارئ والأزمات المختلفة.

وجب علينا التخلص من كافة السياسات الليبرالية بنسخها المختلفة، والتي جرى تنفيذها خلال عقد ونصف، والتي تماهت مع وجود الاحتلال، وحاولت تقبّله، كما حاولت “تطبيع” الفقر والتهميش كنتاج طبيعي لواقعنا، وهذا يعني أنّ الفئات المهمّشة والأسر الفقيرة، والمناطق المحرومة يجب أن تقع في صُلب أي عملية تنموية تحرريَة.

تظهر معالجة الأزمة الحالية مجالًا كبيرًا لرؤية الواقع بعيدًا عن تفاصيله اليومية والاعتيادية، إلى نظرة تنقلنا لعمق معايشة الأزمة الأكبر، المتمثّلة بواقعنا المعقّد ما بين احتلال قاسٍ ويزداد إجراماً، وما بين بنية حكومية مترهّلة واتّباع سياسات لن تفضي إلّا لمزيد من التهميش والإفقار ومراكمة الأرباح على حساب الجميع تقريبًا، لذا فإن هذه الأزمة تتيح لنا مجالًا للتفكير والتراجع عن أخطاء سياساتية مستمرة، والتحوّل نحو اقتصاد تنموي تحرري اجتماعي، وما زلنا نرى أنّ الفرصة ما زالت سانحة.

 

[1]– مجلس الوزراء الفلسطيني. خطة التنمية. الرابط الالكتروني: https://bit.ly/2KACBmq

[2]– الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. “الإحصاء الفلسطيني يستعرض مؤشرات واقع سوق العمل والمنشآت في دولة فلسطين”، نشر في تاريخ   13/4/2020. الرابط الالكتروني: https://bit.ly/2S7MbBp

[3]– جابر، فراس. “الضرائب الاستعمارية في فلسطين” مرصد السياسات الاجتماعية والاقتصادية، 2018.

شاركوا المنشور
})(jQuery)