الانتخابات الأمريكية والقضية الفلسطينية

 

غسان خطيب

خلافاً لكل الانتخابات السابقة، يتابع الفلسطينيون، كما العالم كله، الانتخابات الأمريكية الحالية بقدرٍ كبيرٍ من الاهتمام وحب الاستطلاع، ويعود السبب في ذلك إلى وجودِ بعض الفوارق في مواقف الحزبين والمرشحين تجاه قضايا الشرق الأوسط المختلفة، بما فيها القضية الفلسطينية والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، مقارنةً بتلك الفوارق التي كانت في انتخابات سابقة.

وبالرغم من أن الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، يتسابقون عادةً في الانتخابات، على إظهار التأييد والاستعداد لدعم إسرائيل، إلا أن الإدراة الجمهورية الحالية بقيادة دونالد ترامب، ذهبتْ بعيداً في انحيازها لإسرائيل، لدرجة فاقت مستوى الانحياز الأمريكي السابق لإسرائيل، بما فيها الحكومات الجمهورية السابقة.

إدارة ترامب الجمهورية خرجت عن القاسم المشترك لعلاقة الإدارات السابقة بإسرائيل في ثلاثة جوانب، الأول أنهت التزامها باتفاق أوسلو، والمثال الصارخ على ذلك اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمةً لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، بالرغم من أن اتفاق أوسلو، الذي وقع عليه وزير خارجيتها، نصَ على اعتبار القدس منطقة ًدولية.

والجانب الثاني، أيدتْ الولايات المتحدة ودعمت منهج نتنياهو الداعي لعكس منطق العملية السياسي بالبدء بتطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية، ومن ثم محاولة حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، واستبدال المنطق السياسي الذي قامت عليه عملية السلام، الذي يقضي بإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تمهيداً وتسهيلاً لإنشاء علاقات عربية إسرائيلية.

أما الجانب الثالث، فقد تمثل في شن حرب اقتصادية بدأت بوقف كل المساعدات الأمريكية للفلسطينيين، بما فيه الإنسانية، وامتدت للضغط على حلفاء الولايات المتحدة بما فيهم العرب لوقف  كل أنواع المساعدات المالية للشعب الفلسطيني، الأمر الذي وضع السلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني في المناطق الفلسطينية في أسوأ وضع اقتصادي منذ نشوء السلطة.

أما التحول الثاني في سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الاوسط، والذي كان له تأثير غير مباشر، ولكن هائل، على القضية الفلسطينية، فيتعلق بسياستها تجاه الخليج، وتضمن ذلك الانسحاب من الاتفاق مع إيران، وتوتير العلاقة معها من ناحية، وتكثيف الضغوط على دول الخليج العربي، التي تشعر بالخطر من إيران، من ناحية أخرى من أجل إقامة علاقات مع إسرائيل، الأمر الذي قوّض المبادرة العربية والموقف العربي الذي يشكل أحد أهم مصادر الدعم والإسناد السياسي والدبلوماسي والمالي للفلسطينيين.

ويبدو أن القيادة الفلسطينية أدركت مبكراً خطورةَ هذه السياسة، وفي محاولة للحد من تداعياتها، أعلنت قيادة منظمة التحرير مقاطعةَ الولايات المتحدة من أجلِ إزالة أية شرعية لتحركاتها السياسية، وخاصة خطتها المسماة في وسائل الإعلام “صفقة القرن”.

ولكل هذه الخلفيات، تضعُ الانتخابات الأمريكية القادمة القضيةَ الفلسطينية أمام مفترق طرق خطير، وسيؤدي نجاح أياً من المرشحين إلى تعاملٍ مختلف كلياً من الجانب الفلسطيني. وليس سراً أن القيادة الفلسطينية سوف تتنفس الصعداء في حالة فوز بايدن، ليس لأن ذلك سوف يؤدي إلى تراجع الإدارة القادمة عن الإجراءات التي اتخذتها الإدراة الحالية، ولكن على الأقل قد تتوقف الحرب التي تشنها إدارة ترامب ضد الشعب الفلسطيني. ومما يبرر هذا الموقف، ما توارد من تقارير صحفية من الولايات المتحدة عن بعض التحولات النسبية بتوجهات أكثر اعتدالاً وتوازناً لدى بعض قواعد الحزب الديمقراطي، وذلك كردة فعل على التطرف في موقف الإدارة الجمهورية.

ومن ناحية أخرى، أدت السياسات الداخلية لإدارة ترامب إلى إذكاء العنصرية في الولايات المتحدة، الأمر الذي دفع الكثيرين من اليهود الأمريكيين على التحفظ تجاه الحزب الجمهوري، وبالتالي تعزيز الاتجاه الداعم للحزب الديمقراطي بتوجهاته الأقل مغالاةً في دعم إسرائيل، ذلك أن أوساطاً يهودية أمريكية عديدة أبدت قلقاً من أن سياسة ترامب ونتنياهو المشتركة سوف تقضي على فرصة حل الدولتين، وتعريض الطابع اليهودي الديمقراطي لدولة إسرائيل للخطر.

استناداً إلى بعض المؤشرات الأولية، يبدو أن نجاح ترامب، سوف يدفع الفلسطينيين بجدية أكثر نحو المصالحة التي يرون فيها تعزيزاً للعامل الذاتي، وزيادة في القدرة على الصمود ومواجهة التحديات الصعبة المتوقعة في حالة نجاح ترامب الذي من المتوقع أن يصعّد أكثر في سياسته العدائية تجاه الفلسطينيين والمغالية في الانحياز لإسرائيل.

إضافة الى ذلك، على ما يبدو أن القيادة الفلسطينية متجهة إلى تعامل دبلوماسي جديد يتمثل في توسيع وتنويع علاقاتها الدبلوماسية إقليمياً ودولياً، ومن المؤشرات على ذلك التقارب الفلسطيني التركي، الذي أثار حفيظة بعض الدول العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة الامريكية، والتي تنظر بعدم الارتياح لمثل هذا التطور. أما على المستوى الدولي، فبعض التصريحات الفلسطينية تشير إلى وجود نية لتعزيز العلاقة مع روسيا والصين وغيرها من القوى الدولية، بالرغم من أن هذه الدول مترددة في لعب دور فعّال في العملية السياسية الشرق أوسطية.

ومن الجدير بالذكر أن مثل هذا السيناريو، سوف يستعدي أكثر الولايات المتحدة وحلفاءها العرب، لدرجة قد تدفعهم للعمل بجدية أكثر على تغيير القيادة الفلسطينية التي يرون فيها عقبة أمام منهج صفقة القرن، وإنها مسؤولة عن إضاعة فرصٍ عديدة كانت متاحة لحل القضية الفلسطينية والوصول إلى تفاهمات واتفاقات مع إسرئيل.

من ناحية أخرى، تُشجع التسريبات التي انتشرت في الصحافة المحلية والعالمية على إثر الزيارة المفاجئة لرئيس الكونجرس اليهودي العالمي، رونالد لاودر Ronald Lauder،  للرئيس الفلسطيني محمود عباس في مقر رئاسته في رام الله يوم السبت العاشر من تشرين أول؛ على الاعتقاد بأن لدى القائمين على حملة المرشح الديمقراطي، والجناح الديمقراطي في الجالية اليهودية في الولايات المتحدة، سيناريو مختلف للسياسة الامريكية تجاه الموضوع الفلسطيني الإسرائيلي في حالة فوز المرشح الديمقراطي جوزيف بايدين، وأنهم قد يكونون معنيين بعلاقة من نوع آخر.

فوز بايدن لن يعيد الأمور لما كانت عليه قبل ترامب، وسيشكل فوزه تحدياً من نوعٍ آخر للقيادة الفلسطينية، التي ستجد نفسها مدعوةً لتقديم تنازلات مثل الاستعداد لاستئناف المفاوضات حتى تتمكن إدارة بايدن من تحريك الملف، إذ سوف تصطدم أية محاولات لبايدن بالشرط الإسرائيلي: التفاوض دون شروط مسبّقة، الأمر الذي يتعارض مع طلب الفلسطينيين وقف الإستيطان على الأقل من أجل استئناف المفاوضات.

ومن ناحية أخرى، فإن فوز بايدن يتطلب نزول القيادة الفلسطينية عن الشجرة، فيما يتعلق بمقاطعتها للإدارة الأمريكية على أرضية الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل ونقل السفارة، وعدم استعداد إدارة بايدن لفعل ذلك، سوف يجعل أية محاولة فلسطينية للتعاطي مع الإدارة الجديدة عرضة للمزايدات التي يمكن أن تؤثر على الموقف الرسمي الذي دفع ضعفه في الفترة الاخيرة إلى مواقف شعبوية.

وهذا يقودنا إلى العامل الذاتي الذي يجب تقويته استعداداً لمواجهة التحديين، تحدي فوز ترامب وتحدي فوز بايدن، ذلك أن وطأة الضغوط الخارجية تتضاعف بسبب بؤس الأوضاع الداخلية، ولعبة الربط بين العاملين الداخلي والخارجي، مثل إعطاء الفرصة لجهود المصالحة لكسب الوقت لحين ظهور نتائج الانتخابات الأمريكية، يمكن أن تكون نتائجه خطيرة جداً. وبالرغم من أخذ قطاعات من النخبة السياسية لمحادثات المصالحة التي بدأت في اسطنبول مؤخراً على محمل الجد، وتأكيد الانطباع بأنها تختلف عن سابقاتها، وإن كان ذلك دون مبررات، إلا أن هذه المحادثات على ما يبدو تهدف، مثل المرات السابقة، إلى تمرير رسائل سياسية بالدرجة الأولى، من نوع أن إجراء المباحثات في تركيا رسالة للسعودية، وإعطاء الانطباع بقرب تصالح فتح مع حماس كرسالة لإسرائيل والولايات المتحدة، كما أن خلق الأمل بالمصالحة رسالة إلى الرأي العام المتعطش لذلك.

إن اختلال موازين القوى بين الطرفين، الذي تعمق بعد التطبيع، وبعد تحييد المؤسسات الدولية والقانون الدولي بسبب جهود إلادارة الأمريكية، سوف يعيق أية ديناميكة سياسية بعد الانتخابات الأمريكية كما كان الأمر قبلها، والحقيقة أن لدى القيادة الفلسطينية مساحة ضيقة جداً للمناورة على المدى السياسي القريب، والورقة الوحيدة التي تستطيع أن تلعبها هي وجودها، لأنّ أية إدارة أمريكية، وعبر أية علاقة تربطها مع إسرئيل، ستحتاج إلى سلطة فلسطينية لإجبار تلك السلطة على الترتيبات التي تريدها مقابل بقائها، وفقط عدم وجود مثل هذه السلطة هو الذي سيفقد الولايات المتحدة وإسرائيل القدرة على تحقيق ما يريدون، وهناك من يعتقد أن قطع العلاقات والتنسيق بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، وبالذات اشتمال هذه المقاطعة على عدم استلام أموال الضرائب الفلسطينية، والذي يمكن أن يؤدي إلى انهيارها، هو تلويح في هذا الاتجاه.

في الخلاصة، نتائج الانتخابات الأمريكية القادمة ستحدث فرقاً في السياسة الدولية الأمريكية، بما فيه تجاه الشرق الاوسط ومستقبل الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ولكن إمكانية الاستفادة من أية فرص توفرها نتائج الانتخابات، والقدرة على مواجهة التحديات التي ستجلبها نتائج هذه الانتخابات، سيتوقف على تماسك الموقف الفلسطيني الداخلي الذي يعاني من كثير من الصعوبات.


 

د. غسان الخطيب محاضر في الدراسات الثقافية والدراسات الدولية في جامعة بيرزيت. شغل منصب مدير المركز الإعلامي الحكومي في 2009-2012 ووزير العمل الفلسطيني 2002-2004 ووزير التخطيط 200-2006. مؤسس ومدير مركز القدس للإعلام والاتصال.


إن الأوراق المنشورة تحت عنوان “Rosa Paper” هي مجموعة من التحليلات ووجهات النظر التي يتم نشرها بشكل غير منتظم من قِبَل المكتب الإقليمي لمؤسسة روزا لوكسمبورغ في فلسطين والأردن. إن محتويات هذه الأوراق هي مسؤولية المؤلف وحده ولا تعكس بالضرورة موقف المكتب الإقليمي لمؤسسة روزا لوكسمبورغ في فلسطين والأردن.

تعد مؤسسة روزا لوكسمبورغ واحدة من المؤسسات الرئيسية للتعليم والتثقيف السياسي في جمهورية ألمانيا الاتحادية. تخدم المؤسسة كمنتدى للنقاش والتفكير النقدي حول البدائل السياسية وأيضاً بمثابة مركز للبحث الخاص بالتنمية الاجتماعية التقدمية، فضلاً عن ارتباطها الوثيق بحزب اليسار الألماني (Die Linke).

منذ عام 2000، تقوم المؤسسة بدعم شركائها في فلسطين وقامت بتأسيس مكتبها الإقليمي في مدينة رام الله عام 2008. في الوقت الحالي، يتولى هذا المكتب مسؤولية التعاون المثمر في مشاريع مختلفة مع شركاء المؤسسة في الضفة الغربية، و القدس، وقطاع غزة وأيضاً في الأردن.

 

لقراءة الورقة على ملف PDF: الانتخابات-الأمريكية-والقضية-الفلسطينية

شاركوا المنشور
})(jQuery)